فصل: باب: المَضْمَضَةِ فِي الوُضُوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَين

قالوا‏:‏ إن الحديثَ لأهل المدينةِ ولمن كانت قِبلتُهم على سَمِتْهم‏.‏ ثم إن الظاهر أن البخاري اختار مذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، ولا يُدرى أنَّه اختار تفاصيلهم وفروعَهم في تلك المسألة أيضاً أم لا‏؟‏ أما استثناءُ المصنِّف رحمه الله تعالى فمأخوذٌ من حديث ابن عمر رضي الله عنه عندي، وليس مأخوذاً من حديث أبي أيوب رضي الله عنه كما تكلَّفَ فيه بعضهم، فقال‏:‏ إن الغائطَ يقال للصحراء والفضاء، فكأن هذا الحديث لم يَرِد في البُنيان، وإنما جاء فيما ذهب لحاجّه إلى الصحارَى والفيافي‏.‏ قلت‏:‏ بل الغائطُ في اللغة للأرض المطمئنة والمنخفضة، وإنما كانوا يتحرَّون مكاناً منخفضاً ليحصلَ التسترُ، وهكذا العمل في أهل البوادي إلى يومنا هذا‏.‏

وحينئذٍ صار الحديثُ حجة لنا بعدما كان حجة علينا، لأن الانخفاض يكون كالبنيان كما فعل ابن عمر رضي الله عنه فأناخ راحلته وبال إليها‏.‏ ثم إن الراوي فَهِمَ غير ما فَهِموه، فعنه عند الترمذي‏:‏ «فقدِمْنَا الشام- فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيَت مستَقبَلَ القِبْلة فننحرف عنها ونستغفر الله» فهذا أبو أيوب جعل النهي على عمومه، البُنيانَ والصحارى سواء‏.‏ ومن العجائب ما نسب ابن بَطَّال إلى البخاري أنه ليس في المشرق والمغرب عنده قبلةً على البسيطة كلها‏.‏ قلت‏:‏ وكيف نَسَبَه إليه مع أن أهل بخارى إنما يصلون إلى المغرب‏؟‏ فهل خَفِيَ على مثلِ البخاري قبلتَه مدَّة عُمُره‏؟‏ وإنما تَوهَّم من عبارته في أبواب القِبلة ليس في المشرق ولا في المغرب قبلةً وسيجيء شرحه في موضعه‏.‏

واعلم أن المذاهبَ في هذا الباب عديدةٌ ذكرها العلماء، ونذكر ههنا مذاهب الأئمة الأربعة فقط‏:‏

فمذهب الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ كراهة الاستقبال والاستدبار في البناء والفضاء تحريماً‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ والرواية الأخرى عنه جواز الاستدبار مطلقاً مع كراهة الاستقبال مطلقاً‏.‏ وهو رواية عن أبي حنيفة كما في «الهداية»‏.‏ وفي «النهر الفائق» قيل‏:‏ إنه كُرِه تنزيهاً، ومثله في «المسوى» «والمصفى»‏.‏

ومذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى كراهتهما في الفيافي دون البنيان، فكأنَّهما فرَّقا في حكم الفيافى والبنيان، ولم يفرقا بين الاستقبال والاستدبار على خلاف ما رُوِيَ عن أحمد رحمه الله تعالى، فإِنَّه فَصَل بين الاستقبال والاستدبار، ورأى أمرهما في الكُنُف والصحارَى سواء، ولم يعرج إلى تفصيل بين الصحراء والبناء‏.‏ وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذا الباب‏:‏ حديث أبي أيوب رضي الله عنه وهو أصرحُ وأصحُّ وأنص وأمس بالمقام‏.‏

وحجتهم إجمالاً‏:‏ حديث ابن عمر رضي الله عنه، وجابر رضي الله عنه عند الترمذي، وحديث عِرَاك عند ابن ماجه‏.‏ أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه فلفظه‏:‏ قال‏:‏ رقيتُ يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم على حاجته مستقبلا لشام مستدبرَ الكعبة‏.‏ وأما حديث جابر رضي الله عنه فلفظه‏:‏ قال‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلّم أن نستقبلَ القِبلة ببول، فرأيته قبل أَنْ يُقبَضَ بعامٍ يستقبلُها‏.‏ وأما حديث عِرَاك فلفظه على ما رواه ابن ماجه عن خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت، عن عِرَاك بن مالك عن عائشة قالت‏:‏ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوم يكرهون أَنْ يستقبلوا بفروجهم، فقال‏:‏ «أَرَاهم قد فَعَلوها، استَقْبِلُوا بمقَعَدَتِي القِبْلَة»‏.‏

وأجابَ الحنفية عن حديث ابن عمر رضي الله عنه وجابر رضي الله عنه أنهما فعلان، والفعل لا يعارضُ القولَ، كما بُسِط في الأصول‏.‏ قلت‏:‏ ولا أحبُّ هذا العنوان لأن فِعلَه صلى الله عليه وسلّم أيضاً حجةٌ كقوله، فغيرتُه إلى أنهما حكايتا حالٍ لا عموم لهما‏.‏ وحديث أبي أيوب نصٌ في الباب، وتشريعٌ في المسألة، وحكمٌ على وصفٍ معلومٍ منضبط‏.‏ وهذه الأحاديث لم يُعلم سببُها بعدُ، فكيف يُترك ما هو معلومُ السبب بما جُهِل سببه‏؟‏ وكيف يُهدر الناطق بالساكت‏.‏

ثم نظمت هذا الجواب وقلت‏:‏

يا مَنْ يُؤَمّل أن تكو *** ن له سمات قَبُوله

خذ بالأصول ومن نصو *** ص نَبِيِّهِ ورَسُولِه

نصاً على سبب أتى *** بالساكت المجهوله

دَعْ ما يفوتك وجهه *** بالبَيِّنِ المنقوله

وخُذِ الكلام بغَوره *** لا عَرضِه أو طُولِه

ليس الوقائع في شرا *** ئعه كمثل أُصُوله

لِتَطَرُّقِ الأعذارِ في *** فعلٍ خلافِ أُصُولِه

وحاصله‏:‏ أن ما رآه ابن عمر ورواه لا يُدرى أنه كان لنسخ النهي به أو لتخصيصِهِ بالبُنيان، أو لعذرٍ اقتضاه المكان، أو كان بياناً للنهي أنه ليس للتحريم‏.‏ مع أنَّ نظَرَهُ في هذا الحال لا يمكِنُ أَنْ يكون محققاً، بل لا بد أن يكونَ ارتجالاً‏.‏ ومن يجترىءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَينْظُرَه في هذا الحال إلا أن يكون ساهياً أو خاطئاً‏.‏

وهو عند الطحاوي أيضاً أنَّه رآه محجوباً عليه بِلَبِنٍ، فحينئذٍ كثُر ما يمكن أن يكون رأى منه صلى الله عليه وسلّم وهو في هذا الحال، رأسه الشريف فقط، مع أن العبرة فيه للعضو دون الصدر، فأمكن أن يكون منحرفاً بعضوه ومستقبلاً بوجهه وصدره، ثم لو سلمناه فما الدليل على أن استقبالَه صلى الله عليه وسلّم كان يُبنى على ما فَهِمَهُ ابن عمر رضي الله عنه‏؟‏ وإنَّما هو اجتهادُه وفهمُه وظنه، وليس عنده غيرَ تلك الرؤية المشتبهة شيء، وقد عارضه فهمَ أبي أيوب رضي الله عنه كما علمت، على أنَّ في حديث ابن عمر رضي الله عنه شيئاً آخر ذَكَرَهُ أحمد رحمه الله تعالى كما في العيني، ولم أكن أفهمُ مرادَه إلى زمان ولم ينتقل إليه أذهان عامتهم، وبعده يخرجُ حديثُه عما نحن فيه رأساً وينتقل إلى باب آخر‏.‏

وهو‏:‏ أنَّ محطَّ حديثه المعارضةُ بمن رأى الكراهة في استقبال بيت المقدس، ولا بحث له عن استقبال البيت قصداً، ويتضحُ ذلك من سياقٍ سَاقه مسلمٌ عن عمه واسع بن حَبان قال‏:‏ كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله‏:‏ يقول ناس إذا قعدت لحاجة تكون لك فلا تقعد مستقبلَ القِبلة ولا بيتَ المقدس‏.‏ انتهى‏.‏

فهذا يدلُّ صراحةً على أنَّ كلامَه إنما هو مع من كان يكره استقبال بيت المقدس ويعدّه كالقبلة‏.‏ وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلّم في النَّهي عن الاستقبال بهما أيضاً، فعند أبي داود عن مَعقِل بن أبي معقل الأسدي قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نستقبلَ القِبلتين ببولٍ أو غائطْ فابن عمر رضي الله عنه إنما يُعارضُ بمن يعد كراهة استقبالِ بيت المقدس أيضاً كالبيت، ولا تعلق له بمسألة البيت قصداً، ولذا تعرَّض عند بيان رؤيته إلى بيت المقدس فقط‏.‏

وما في بعض الروايات‏:‏ مستدبرَ الكعبة، فهو لزوميٌّ ويُبنى على تحقيق السَّمت‏.‏ وكونُهما على طرفين بحيث يُوجب استقبالُ أحدهما استدبار الآخر، وذلك غير معلوم‏.‏ وإنما أراد به ابن عمر رضي الله عنه التقريبَ وما يَتَرَاءى في بادىء النظر فقط، ومسألة الاستدبار والاستقبال تُبنى على تحقيق ذلك السَّمت في نفس الأمر، ولا تتحققُ إلا أن يحقِّقَها علماء الجغرافيا كذلك‏.‏ وعرض البلدتين مكة وبيت المقدس يختلف على أنَّه لا يرد علينا، لِمَا مرت رواية عن الإِمام في جواز الاستدبار‏.‏

قلت‏:‏ والأحسن عندي أن يُجمع بين روايات الإِمام أيضاً، كما يُجمع بين الأحاديث، فتقام المراتبُ ويقال‏:‏ إنَّ كراهةَ الاستقبالِ أشدُّ من كراهة الاستدبار، وبه حصل الجمعُ بين الروايتين‏.‏

وأما حديث جابر رضي الله عنه ففيه بعض ما مرَّ في حديث ابن عمر رضي الله عنه، مع أنَّ الظاهر أن رؤيتَه كانت في سفر من أسفارِه في الصحارَى دون البنيان، لأنه لم تكن له قَرَابة من النبي صلى الله عليه وسلّم ليكون طَوَافَه على النبي صلى الله عليه وسلّم كأهل البيت، فالظاهرُ أَنْ يكون رآه في الصحارَى، وهذا خلافُ ما رَامه الشافعية رحمهم الله تعالى‏.‏

وأجابَ عنهما بعضهم أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان أفضلُ من البيت قطعاً، فجاز له الاستقبال والاستدبار خاصة، بخلاف سائر الأمة‏.‏ قلت‏:‏ ومما ينبغي أن يُعلم أن الطريقَ المختارَ عند الجواب أن يُستشهدَ بأمر خاص رُوي في هذا الباب بعينه دون التمسكِ بالعمومات، وكونه صلى الله عليه وسلّم أفضلُ من البيت أمرٌ عامٌ، فالتمسك به على جواز الاستقبال والاستدبار غير مَرْضِيٍ عندي ما لم يؤت بخصائصه التي رُويت في هذا الباب بعينه، لأنه يجوز أن يقال‏:‏ إن أفضليته إنما ظهرت في عالم التكوين، أما في المسائل فلم تظهر بعدُ، فإِنه مأمورٌ بالاستقبال كسائر الناس، وكثيرٍ من أحكامه في التشريع مثلَ أمته‏.‏

فالوجه عندي في تقريره أنَّه محمولٌ على خصوصيتِهِ صلى الله عليه وسلّم لكِنْ لا لكونه أفضل، بل لكونه مختصاً ببعض الأحكام مِنْ هذا الباب‏.‏ فإِذا علمنا خصوصيتَه في هذا الباب هَان علينا أن نحمل استقباله أيضاً على الخصوصية‏.‏ ومما وجدنا من خصائصه في هذا الباب ما في «المواهب»، عن الدارقطني‏:‏ أن عائشة رضي الله عنها سألت النّبي صلى الله عليه وسلّم إنا لا نجدُ في خلائك شيئاً يا رسول الله قال‏:‏ «أَمَا تعلمِ أنَّ الأرض تبلغ عَذِرات الأنبياء»‏.‏ وأسناده قوي بالمعنى ‏.‏ وعند الترمذي في المناقب أنه قال لعلي رضي الله عنه‏:‏ «لا يجوز لأحدٍ أن يجنبَ في المسجد غير وغيرك» أي يمرُّ في المسجد جنباً، وحسَّنه الترمذي، وتصدى إليه ابن الجوزي فأدخله في الموضوعات فَهْمَاً منه أن الروافضَ لما رأوا فضيلة أبي بكر رضي الله عنه في إبقاء خَوْختِهِ خاصّة، أرادوا أن يتخرعوا له خصوصية أيضاً، فوضعوا له هذا الحديث‏.‏ وردَّه الحفاظُ وقالوا‏:‏ الحديث قوي‏.‏

ثم ما زلت أتفكرُ في وجه الإِباحة لهما خاصة وأقول‏:‏ لعلهما لم يكن لهما طريق إلا من المسجد‏.‏ ثم رأيتُ في «السيرة المحمدية» أَنَّ موسى وهارون عليهما الصلاة والسَّلام لِمَّا بنيا المسجد في مصر أعلنا أَنْ لا يَقْعُدَ في المسجد جنباً غيرهما، فتبين لي أنَّ جواز الدخول جنباً لِمَّا مِنْ خصائص النبوة، ولذا تحت الخصائص ذكره صاحب «السيرة»‏.‏ وعلى هذا أقول‏:‏ إنَّ مرورَه صلى الله عليه وسلّم من المسجد جُنباً أيضاً من هذا الباب، وليس من عدم وجدانه طريقاً آخر، وإنَّما رخَّص لعليٍ رضي الله عنه مع عدم نبوته، لما في الصِّحَاح‏:‏ «أنت مِنِّي بمنزلة هَارونَ من موسى»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

فلمَّا كان عليٌ رضي الله عنه بمنزلة هارون منه أباحَ له أيضاً ما أَبيح له، ثم صرَّح بقوله‏:‏ «إلا إنه لا نبي بعدي»، أَنَّه لا ينبأَ بعده أحدٌ لئلا يُختَدَع منه دجَّال من أمته فيضل الناس بغير علم، كما وقع لميرزا غلام أحمد القادياني فادَّعى النبوةَ وجعله أمه الهاوية‏.‏ وتمسك من مثل هذه الأحاديث مع صَدْعها بخلافه، لعنه الله‏.‏

ثم مسألةُ طهارة فَضَلات الأنبياء توجد في كتُب المذاهب الأربعة، ولَكِنْ لا نَقْلَ فيها عندي عن الأئمة إلا ما في «المواهب» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى نقلاً عن العيني، ولكنِّي ما وجدتُه في العيني‏.‏ وفي «كَنْزِ العمال» أنَّ أجساد الأنبياء نابتةٌ على أجساد الملائكة‏.‏ وإسناده ضعيف‏.‏ ومرادُه أن حالَ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في حياتهم كحال الملائكة، بخلاف عامة الناس فإنَّ ذلك حالَهم في الجنة، فلا تكون فضلاتهم غير رَشَحَات عَرَقٍ‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ هذه عدة خصائصه تتعلقُ بأحكام الخَلاء جنساً أو نوعاً، فليكن الاستقبال أيضاً من خصائصه كأخواته هذه، وهذه الطريق أقرب من ادِّعاء الخصوصية أوَّلاً، فإِنَّ الذهنِّ إذا تصوَّر بعض خصائصِهِ من هذا الباب تيسر له أن يقيسَ عليها الأخرى ويُلحِقَها معها‏.‏

وأما حديث عِرَاك فقد استُشْكِل جوابهُ على النَّاس، فنازع بعضُهم في وصلِه وإرساله‏.‏ فنُقل عن ابن أبي حاتم في «المراسيل» أَنَّ أحمد أَعَلَّهُ وقال‏:‏ إن عِرَاكاً لم يسمع من عائشة رضي الله عنها‏.‏ وأجيبَ أن مسلماً أثبت وأَخْرَجَ في «صحيحه» حديثَه عن عائشة رضي الله عنها من رواية يزيد بن أبي زياد مولى ابن عباس عن عِرَاك عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ جاءتني مسكينةٌ تحمِلُ ابنتين لها‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أولى بالاتباع في هذا الباب، فهذا الحديثُ وإن كان صحيحاً عند مسلم لكنه معلولٌ عند أحمد‏.‏ وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصَّلْت‏:‏ أنه منكرٌ‏.‏ وصَحَّحَ البخاري وقفَه، ثُمَّ إن خالداً هذا جعفر بن ربيعة الضابط والحجة في عِرَاك، فإنَّه رواه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُنكر ذلك ولم يرفعه، وأوضح القرائن على وقفِهِ أَنَّه حَدَثَ بمجلس عمر بن عبد العزيز، عن عِرَاك، عن عائشة رضي الله عنها فلم يَعمَل به‏.‏

رواها الدارقطني من طريق هارون بن عبد الله، والبيهقي من طريق يحيى بن أبي طالب كلاهما عن علي بن عاصم حدثنا‏:‏ خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت قال‏:‏ كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته وعنده عِرَاك بن مالك، فقال عمر‏:‏ ما استقبلتُ القِبلة ولا استدبرتُها منذ كذا وكذا، فقال عِرَاك‏:‏ حدثتني عائشة رضي الله عنها أمْ المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما بَلَغَهُ قولُ النَّاس في ذلك أمر بمقعدتِهِ فاستقبل القِبْلة، وهو عند الطحاوي أيضاً‏.‏ ومع ذلك لم يعمل به عمر بن عبد العزيز، حتى إن مذهبه أن التَّفْل في جهة القبلة حرام، فكيف بالغائط وما ذلك إلا أَنَّه رآه موقوفاً‏.‏

ثم إن الحديث أجنبي في الباب ولا يرتبطُ مما رُويَ عنه صلى الله عليه وسلّم في هذا الباب، لأنَّه لا يخلو إمَّا أَنْ يكون مقدَّماً على حديث أبي أيوب أو متأخراً عنه، فإنْ كان الأول فقد نَسَخَه حديث أبي أيوب، وإن كان الثاني فلا معنى لإنكارِه عليهم بعد الأمر به بنفسه، ولا يتعقل عاقلٌ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم نَهَاهم عن الاستقبال والاستدبار أولاً، ثم تعجَّب عليهم حين امتثلوا بأمره وانتهوا عن نهيه، فهذا الحديث يدل على كونه موقوفاً‏.‏ وإِنما الأمر أنَّ عائشة رضي الله عنها هي التي تعجبت من فعلهم، ثم أمرتهم بما أُمِرَت، وليس ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم إِنْ شاء الله تعالى‏.‏ ولعلَّ الدارقطني قد عدَّه من أفرادِهِ لمثل هذا‏.‏

ثم اعلم أنهم اختلفوا في معنى النَّهي ما هو، ليُعلَّم أن التفصيلَ في النهي أولى أو الإطلاق‏.‏ فقال قائل‏:‏ هو إكرام الملائكة وقيل‏:‏ حرمة المصلين، وقيل‏:‏ احترام القِبلة‏.‏ وأيَّد ابن العربي الثالث بخمسة أوجه ذَكَرها في الشرح مفصَّلة‏.‏ والظاهر أنَّ المعنى هو احترام القِبلة، لأنَّه نص عليه من جانبه، وقال‏:‏ لا تستقبلوا القبلة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فذكره بلفظه وأشار إلى أن النهي لأجله، ولذا أباحهما، لأنَّ التغوطَ في هاتين لا ينافي معنى الاحترام، فقد أخذه طرداً وعكساً وأدار عليه النهيُ والإِباحة كيف والقِبلةُ يوجه إليها عند الصَّلاة، فلا يُستقبل بها عند الغائط‏؟‏

ثم إنَّ العيني تمسَّك للمذهب مما أخرجه ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث حذيفة مرفوعاً‏:‏ «من تفل تُجاه القِبْلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» وإذا كان حال التَّفْل هذا، فما بال الغائط‏؟‏ قلت‏:‏ وهذا المضمون يوجدُ في عامة الكتُب مقيداً بقيدِ الصَّلاة وفيه‏:‏ «فإنَّ ربَّه بينه وبين القِبْلة» فتردد النظرُ فيه أنَّ هذه المعاملةَ دائمةٌ أو تقتصرُ على حال كونِهِ في الصَّلاة فقط‏؟‏ واختار أبو عمرو أنَّه مستمر في جميع الأحوال‏.‏

ونقله الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» واعتراه النسيان، لأنَّه يسقط به تفصيل الفيافي والبُنيان، ويبقى النَّهي على إطلاقه كما كان‏.‏ نعم، لو ثبت أنه مقتصرٌ على حين الصلاة فقط، ولا يستمر في جميع الأحوال- لو هي استدلال العيني رحمه الله تعالى به والوجدان- يحكمُ أنه مستمرٌ، لكنه لا نقل عندي‏.‏ وليكَن أخر الكلام أني لم أجد في أحدٍ من المرفوع التفصيل الذي ذهب إليه الآخرون، غير ما في هاتين الواقعتين مع ما فيهما وقد علمت حاله‏.‏

144- قوله‏:‏ ‏(‏شرِّقوا أو غربوا‏)‏ واستنبطَ منه الغزالي أنَّ العالم منقسمٌ على الجهات الأربعة، وأنَّ المعتبر في الاستقبال هو الجهة‏.‏ قلت‏:‏ مسألةُ استقبالِ الجهة أو العين لا ترجِعُ إلى كثير طائل‏.‏ ومبناها عندي على العُرف فقط دون الدقائق الهندسية، فإِنهم قالوا‏:‏ إن المعتبرَ فيمن كان يشاهدُ البيتَ هو العين، ولمن كان بعيداً منه هو الجهة‏.‏ ثم قالوا‏:‏ إنَّ المعتبر في المُسَامتة وصولُ خطٍ خارج من جهة المصلى إلى البيت، فما دام أمكنَ أن يصلَ خطٌ بينه وبين البيت تصح صلاته، وإلا لا‏.‏ قلت‏:‏ وهذا في حق البعيد، أمَّا من كان قريباً فيمكن وصولُ الخطِّ مع الانحراف أيضاً، مع أنَّه لا تجوز صلاته، فَآل الأمرُ إلى العِرفِ‏.‏ وقد طالعت له أسفاراً وزبراً‏.‏ وما قاله المَقْرِيزي فلم أجد المقال يرجع إلى طائلٍ، فالتحقيق أنَّ الاستقبال لا يتوقف على البراهين الهندسية، بل يرجع إلى العُرف‏.‏

145- قوله‏:‏ ‏(‏يُصَلَّونَ على أَوْرَاكِهم‏)‏ وهنَّ النِّساء، وهو كناية عن عدم عِلْمِه بالمسائل‏.‏ وتصدى الناس في بيان مناسبته مما قبله‏.‏ قلت‏:‏ إنه تعريض إلى وَاسع بن حَبَّان بأنك تتعجبُ من جلوسي مستدبرَ القبلة، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مستدبراً قاعداً لحاجته، كما يتضح من سياق مسلم، ولفظه عن واسع‏:‏ كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر رضي الله عنه مسندٌ ظهرَه إلى القِبلة، فلما قَضَيت صلاتي انصرفت إليه من شقى فقال عبد الله‏:‏ يقول ناس‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وقال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ لأجلِ هذا الحديث أنَّ ابن عمر رضي الله عنه لعلَّه رأى منه في حال سجودِهِ شيئاً لم يتحقق عنده، فقدَّمها على ذلك الأمرِ المظنون ولا بعدُ أن يكونَ قريبُ عهدٍ بقولِ من نَقَلَ عنهم ما نقل، فأحبَّ أن يعرِّفه هذا الحكم لينقله عنه، على أَنَّه لا يمتنعُ إبداء مناسبةٍ بين هاتين المسألتين، بأن يُقال‏:‏ لعل الذي يسجد وهو لاصقٌ بطنَه بوَرِكيه كان يظنُّ امتناعَ استقبالِ القبلة بفرجه على كل حال، فأشار ابن عمر رضي الله عنه إلى أنَّ السترَ بالثياب كافٍ، كما أنَّ الجدارَ كافٍ في كونه حائلاً بين العورة والقِبلة‏.‏ ا ه‏.‏

145- قوله‏:‏ ‏(‏يُصَلَّونَ على أَوْرَاكِهم‏)‏ وهنَّ النِّساء، وهو كناية عن عدم عِلْمِه بالمسائل‏.‏ وتصدى الناس في بيان مناسبته مما قبله‏.‏ قلت‏:‏ إنه تعريض إلى وَاسع بن حَبَّان بأنك تتعجبُ من جلوسي مستدبرَ القبلة، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مستدبراً قاعداً لحاجته، كما يتضح من سياق مسلم، ولفظه عن واسع‏:‏ كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر رضي الله عنه مسندٌ ظهرَه إلى القِبلة، فلما قَضَيت صلاتي انصرفت إليه من شقى فقال عبد الله‏:‏ يقول ناس‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وقال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ لأجلِ هذا الحديث أنَّ ابن عمر رضي الله عنه لعلَّه رأى منه في حال سجودِهِ شيئاً لم يتحقق عنده، فقدَّمها على ذلك الأمرِ المظنون ولا بعدُ أن يكونَ قريبُ عهدٍ بقولِ من نَقَلَ عنهم ما نقل، فأحبَّ أن يعرِّفه هذا الحكم لينقله عنه، على أَنَّه لا يمتنعُ إبداء مناسبةٍ بين هاتين المسألتين، بأن يُقال‏:‏ لعل الذي يسجد وهو لاصقٌ بطنَه بوَرِكيه كان يظنُّ امتناعَ استقبالِ القبلة بفرجه على كل حال، فأشار ابن عمر رضي الله عنه إلى أنَّ السترَ بالثياب كافٍ، كما أنَّ الجدارَ كافٍ في كونه حائلاً بين العورة والقِبلة‏.‏ ا ه‏.‏

باب‏:‏ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى البَرَاز

قوله‏:‏ ‏(‏كن يخرجن‏)‏ وعُلم منه أنهنَّ لم يكنَّ يخرجن في النهار قبل نزول الحجاب أيضاً‏.‏ وفي المقام إشكالات عديدة‏:‏ الأول‏:‏ أنه يُعلم من رواية الباب أنَّ سَوْدَة رضي الله عنها خرجت قبل أن ينزلَ الحجاب، ثم قال عمر رضي الله عنه ما قال، وبعده نَزَلَ الحجاب، ويعلم مما أخرجه المصنف رحمه الله تعالى في التفسير أنها خرجت بعد ما ضُرِب الحجاب، مع أنَّ الرواية متسحدةٌ متناً وسنداً‏.‏ وأجاب عنه الحافظ بتقسيم الحجاب، فمنه ما يكون بإدناء النِّقَاب عند الخروج وأُسمِّيه حجاب الوجوه‏.‏ والثاني‏:‏ أسميه حجاب الأشخاص‏.‏ فما في الباب محمولٌ على خروجها قبل نزول حجابِ الأشخاص، وما في التفسير محمولٌ على خروجها بعد نُزُولِ حجاب الوجوه فصحَّ الأمران‏.‏

قلت‏:‏ ولي فيه نظر، لأنَّ حديثَ البابِ يدُل على أنَّ عمر رضي الله عنه كان يحب التضييق، ولذا قال‏:‏ قد عرفناكِ يا سوردُ رضي الله عنها حِرْصاً على أن يُنزلَ حكمُ الحجابِ أضيقَ منه‏.‏ وحينئذ فالظاهر من قوله‏:‏ «فأَنْزَلَ اللهاُ الحجاب» أَنْ يكونَ نَزَلَ التضييق كما أراده، لأنَّ الحجابَ يعدّه عمر رضي الله عنه مما وافق فيه ربه كما في البخاري‏.‏ ومعلوم أنه لم يكن يحبُ إلا التضييق، مع أنه نَزَل فيه التوسيع‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلّم «قد أُذنَ لكُنَّ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ كما في الرواية التي بعدها فهذا لا يتربط من السياق، لأن قوله‏:‏ «فأنزل الله الحجاب»، يُشعر بنزول التضييق والرواية الأخرى بعدها تدل على إذن الخروج، وكذا لا يلتئمُ بقول عمر رضي الله عنه‏:‏ وافقت ربي في الحجاب، فإِنَّ ربه خَالَفَه فيه ولم يُنزِل فيه التضييق كما أراد، فما معنى الموافقة‏؟‏

فالوجه عندي أنَّ الروايَ قدَّم وأَخَّر هنا في سرد القِصة، والصحيح كما في التفسير أنَّها خرجت بعدَ نُزُول الحجاب‏.‏ كان عمر رضي الله عنه يحبُّ حجاب الشخص فلم يوافقه الوحي فيه، وإنما عدَّ الحجاب من مُوَافقاتِهِ لنزول حِصة منه على وَفْقِ رأيه‏.‏ ثم إنَّ قوله صلى الله عليه وسلّم «قد أَذن لكُنَّ» لم يكُن مستفاداً من الآية، بل لعله كان من وحيٍ غير متلوٍ أو استنباط منه‏.‏ ولذا لم يذكر نزول آية هناك‏.‏

وسياقه في التفسير هكذا‏:‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ خَرَجَتْ سَودةُ بعدما ضُرِبَ الحجابُ لحاجتها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فرآها عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا سودة أما والله ما تخفَينَ علينا فأَنْكَفَأت‏.‏‏.‏‏.‏ فقالت‏:‏ يا رسول إنَّي خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمره‏:‏ كذا وكذا، قالت‏:‏ فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ «إنَّه قد أُذِنَ لكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لحاجتكنَّ» ففيه تصريح بأنَّها خرجت بعد نزول الحجاب، وليس فيه إِنَّه إذْنَ الخروج كان من وحي متلوٍ، بل يُمكِن أن يكون من وحي غير متلو‏.‏

هذا هو الترتيب عندي، فاندفع منه إشكالُ التعارُضِ بين الروايتين، وكذا لم تبق في قوله‏:‏ «فأنزل الله الحجاب» رِكَّة، لأنَّه مقدَّمٌ في الأصل وإنَّما أخره الراوي فأوهمَ رِكَّةً، وكذا لم يبق في قوله‏:‏ «قد أُذِنَ لكُنَّ» قلقٌ، لأنَّ الإِذن على هذا التقدير ليس مُستفاداً من جهة الآية شرحاً لها، بل من جهة أخرى، بخلاف ما إذا كان الترتيب كما في رواية الباب، فإِنَّه يدُل على أن الإِذن مستفادٌ من آية الحجاب وأنَّ التوسيع من جهة الوحي فيوهم رِكَّةً، لأن السياقَ يوجبُ نزولَ التضييق وكذا لا يرتبط مع قول عمر رضي الله عنه، فإِن قوله‏:‏ إذا كان قَبْلَ نزول الحجاب كما في هذه الرواية ونزول الحجاب بعده‏.‏

فالظاهر أنه نَزَلَ حَسَب رأيه وَوَافقَه الوحي فيه كما في البخاري عنه‏.‏ وهذا كله لسوءٍ الترتيب، ولو كان الترتيبُ كما في التفسير لم يرد شيءٌ مِنْ هذا‏.‏ ومن زَاول تصرفات الرواة لا يستبعد ما قلنا‏.‏ وأمَّا من كان عنده عِلم بدون تجربة فإنَّه يضيق منه، فليكُن هكذا فإِنَّه الأولى بشأنه8 وللحافظ رحمه الله تعالى أن يقول‏:‏ إن قوله‏:‏ «فأنزل الله الحجاب» إشارة إلى أن الحجاب الذي نَزَلَ أولاً ولأجله عدَّه عمر من مُوَافقاته لا إلى الحجاب الذي نَزَل الآن، فإِنه لم ينزل في هذه الوَاقعة حجاب الشخص كما كان عمر يحبه ولا شيء‏.‏

والإِشكال الثاني‏:‏ أنَّ هذه الرواية تدل على أن الآيةَ نزلت في قِصة سودة رضي الله عنها‏.‏ وما عنده في التفسير يدُل على أنها نزلت في وليمة زينب رضي الله عنها‏.‏ قال الحافظ‏:‏ إِنَّ هناك واقعة أخرى أيضاً وكلها متقاربة وآخرها واقعةُ زينب رضي الله عنها، وفيها نَزَلت آية الحجاب، إلا أنَّ كلَّها لّما كانت متقاربةً نُسب نزولُها إلى هذه وهذه‏.‏ قلت‏:‏ والمتبادر من ألفاظ الأحاديث نزولها في كل منها، لا أنها نزلت في واحد منها ثم نُسب نزولُها إلى الأخرى لتقاربها فلتكن ما في قصة سودة رضي الله عنها غير ما نزلت في قصة زينب، إلا أنَّ الحافظ رحمه الله تعالى أتى برواية صريحة أنَّ الآية التي نزلت في قصة زينب رضي الله عنها هي بعينها نزلت في قصة سَودة رضي الله عنها، وإسنادُه لا بأس به‏.‏

ثم اعلم أنَّ المشهور بآية الحجاب هي التي نَزَلت في قصة زينب رضي الله عنها، يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 53‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فلعلها هي الدَّعامة في هذا الباب والبواقي تفاصيلها‏.‏ وليعلم أن في قصة زينب رضي الله عنها أيضاً إشكالاً، فعن أنس رضي الله عنه أن الحجاب نزل بعدما خرج القومُ حين أراد أَنس رضي الله عنه أن يدخلَ بيته الشريف‏.‏ وعنه في تلك القِصة أنَّه نَزَل الحجاب ثم خرج القوم‏.‏

فإِن قلت‏:‏ إن الآية التي نزلت في واقعة زينب رضي الله عنها ليس فيها حجابُ الوجوه ولا حجاب الشخص، بل فيها أمرٌ ثالثٌ وهو نهيُ الدخول عليهن‏.‏ قلت‏:‏ ويعلم منها بطريق العكس نهي الخروج عليه مع استثنائه عند الحوائج ثم اعلم أن هناك آياتٌ أخرى متعلقةٌ بمسألةِ الحجاب، فمنها‏:‏ ‏{‏قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 30‏)‏ إلخ‏.‏ فحكم الرجال والنساء بغض البصر، ومنها‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 59‏)‏‏.‏ ومنها‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 31‏)‏ والجِلباب‏:‏ هو الرِداء الساتر لجميع البدن، والخِمار‏:‏ ثوب صغير يُلقى على العمائم، وتجعله النساء على رءوسهنَّ لستر الجيب‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن إدناء الجِلباب يُغني عن ضرب الخُمُر على جيوبهن‏.‏ قلت‏:‏ بل إدناء الجِلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة، وضرب الخُمُر في عامة الأحوال، فضرب الخُمُر أيضاً محتاج إليه‏.‏ ومنها‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 31‏)‏ إلخ‏.‏ قيل‏:‏ الزينة هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس‏.‏ وقيل المراد بها‏:‏ الزينةُ المكتسبة من الثياب والحُلي، فما ظهرَ منها بعد مُرَاعاة التسترُ يكون عفواً‏.‏

قلت‏:‏ وهو المراد عندي، فإِن التي يعدُّونها أهل العرف زينةً هي هذه لا غير، وإليه يشيرُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 31‏)‏ أي لئلا تنكشف زينتهم المكتسية‏.‏ ومنها‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ إلخ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 33‏)‏ والخطاب فيها وإن كان خاصاً إلا أن الحكمَ عامٌ، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية في شيءٍ، إنما تبرجهم أن يخرجن كالرجال بالوقاحة وعدم التسترُ‏.‏ فهذه نسق آيات الحجاب عندي والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

اطلاع‏:‏ واعلم أن القَسْطَلاني أوضح مرادَ الحافظ رضي الله عنه في هذا الموضع فراجعه‏.‏

باب‏:‏ التَّبَرُّزِ فِي البُيُوت

وإنَّما ترجم البخاري باستثناء الجدار والبناء فيما مر، نظراً إلى هذا الحديث‏.‏ وإنما لم تنتقل إليه أذهانُ العامة لأنه لم يترجم عليه بذلك‏.‏ والمصنِّف رضي الله عنه إنما يترجم به على هذا الحديث لأنه قد فرغ عنه مرة وأدرجه فيما سبق‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِنْجَاءِ بالمَاء

واعلم أن الاقتصارَ على أحدهما جائزٌ والجمعُ مستحبٌ‏.‏ وأفتى الشيخ ابن الهُمَام بسنيته في زماننا، لأن الناس لكثرة أكلهم يَثْلِطُون ثلطاً‏.‏ وقد ثبت الجمع عن عمر رضي الله عنه كما في «الأم» للشافعي رحمه الله تعالى‏.‏

ويُعلم مِنَ الروايات المرفوعة إشارةً أيضاً، كما في حديث المُغيرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم ذهب لحاجة ثم جاءَه لطلب الماء، ويُستبعد أَنْ يكونَ النبي صلى الله عليه وسلّم جاءَه ولم يستنج بالحَجَرِ، لأنَّه يوجبُ التلوث والتنجُّس‏.‏ ثم إذا استنجى بعده بالماء ثبت الجمعُ‏.‏

150- قوله‏:‏ ‏(‏غلام‏)‏ قال الحافظ‏:‏ إنه ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ قلت‏:‏ ولا أدري من أين عيَّنَه الحافظ رحمه الله تعالى، مع أنَّ الغلامَ لا يُطلق على شيخ كبيرِ السن، فإِنَّ كان هو لأجل أنه كان خادمَه، فآخرون أيضاً كانوا يخدمونه بمثله، على أنَّ في روايةٍ لفظ‏:‏ «غلام من الأنصار» وهو من المهاجرين فالظاهر عندي أنه رجل آخر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ مَنْ حُمِلَ مَعَهُ المَاءُ لِطُهُورِه

باب‏:‏ حَمْلِ العَنَزَةِ مَعَ المَاءِ فِي الاسْتِنْجَاء

يعني انَّ هذا القدرَ من الإِعانة جائزٌ، فلو حَمَلَ ماءً لمقتدى وَسِعَ له‏.‏ والصَّبُ أيضاً غير مكروهٍ، وكُرِه دلكه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أليس فيكم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وأخذ منه المصنف رحمه الله تعالى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يستخدمُ أصحابه في مثل هذه الأشياء‏.‏

قوله‏:‏ والوسادة وفي بعض النُّسخ‏:‏ السواد، ومعناه النَّجوى، فإِنه لشِدَّة وروده كان يُعدُّ من أهل بيته، حتى إنه لم يكن له إلى الاستئذان حاجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حمل العنزة‏)‏ ده لكرى جس مين شام لكى هو‏.‏

باب‏:‏ النَّهْيِ عَن الاسْتِنْجَاءِ باليَمِين

153- قوله‏:‏ ‏(‏فلا يتنفس في الإِناء‏)‏ بل ينبغي أن يتنفسَ في الخارج، ولذا أقول‏:‏ إن الشريعة التي تنهى عن التنفُّس كيف تتحملُ الوضوءَ والشُّرب من الماء وفيه لحوم الكلاب والنَّتَن والحِيَضِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يمس ذكره‏)‏ واعلم أنَّ المسَّ ظاهرٌ وإنَّما عبَّر بالمسح في استعمال الحجارة على عادتهم، فإنَّ السلف لم يكونوا يستنجون كما يستنجون في بلادنا‏:‏ من المشي والتَّنَحْنُح لقطع التقطير لكونهم أقوياء، فكان يكفي لأحدهم المسحَ في البول كما في الغائط فحصل الفرقُ بين المس والمسح، ومَنْ غَفَلَ عن عاداتهم يَضْطَرِبُ فيه‏.‏

باب‏:‏ لا يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَال

باب‏:‏ الاسْتِنْجَاء بِالحِجَارَة

نَقَّحَ منَاطَه أبو حنيفة رضي الله عنه بكل شيءٍ طاهرٍ تَافهٍ قالعٍ للنجاسة وعمم، مع أنه لا يرد في الحديث إلا الحجارة، وقد علمتَ أنَّ تنقِيحَ المناط يجري في المنصوص أيضاً وعلمتَ أيضاً أن طريقَ تعليمِ صاحبَ النبوة هو التعليم بالعمل، فما أراد أَنْ يُعَلِّمَ أمَّتَه عَمِلَ به وأمرَهم باقتدائه، لا بأن يهيىءَ عبارةً مطردةً منعكسة ثم يُعرضها على الناس، فإنه طريقٌ مُحدَثٌ غير فِطري فاستعمل الحجارةَ على عادتهم ولكونها سهلةُ الوصول، وكان الغرضُ أعم منه، وذهب داودٌ الظاهري أن غيرها لا يُجزىءُ عنه‏.‏

155- قوله‏:‏ ‏(‏وكان لا يلتفت‏)‏ هذا من الآداب‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏استنفض‏)‏ أراد به إزالة النجاسة‏.‏

باب‏:‏ لا يُسْتَنْجى بِرَوْث

156- قوله‏:‏ ‏(‏ليس أبو عُبيدة ذَكَرَه‏)‏ مع أنَّ الترمذيَّ رجَّحَه وخالف فيه شيخَه البخاري، وادَّعى أنَّ حديثَ أبي إسحاق عن أبي عُبيدة عن عبد الله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أصحُّ عنده من حديث زهيرٍ هذا، وذَكَرَ له وُجُوهاً في «جامعه»‏.‏ ومال الحافظ رحمه الله تعالى إلى ترجيحِ طريق زهيرٍ كما رجَّحه البخاري، وأجاب عما أورده الترمذِيُّ‏.‏

156- قوله‏:‏ ‏(‏وألقىَ الرَّوثة‏)‏ واعلم أنهمَّ اختلفوا في عدد الأحجار‏.‏ فقال الشافعية‏:‏ إن التثليث واجبٌ والإِيتار مستحبٌ، فلو استعمل رجلٌ الحجرين وأنقى يستنجي بثالثٍ وجوباً عندهم لا عندنا‏.‏ وعندنا القلعُ واجبٌ والتثليث والإِيتار مستحب كما هو في «البحر شرح الكنز»‏.‏ وينبغي للمشتغل بالحديث أن يويِّدَ ما في «البحر» ليكون مذهبُنا أقربُ إلى الحديث‏.‏

ثم الحافظ رحمه الله اعترض على الطحاوي بأنَّ التمسك منه على الاستنجاء بالحجرين لا يصح، لما ثبت فيه من زيادة‏:‏ «وأْتِني بثالث» قلت‏:‏ إن كان هذا اعتراضاً على الطحاوي فهو على الترمذيِّ أيضاً، لأنَّه أيضاً بوَّبَ عليه بالاستنجاء بالحجرين، فعُلِم أنَّه لم يقبل تلك الزيادة‏.‏ ولنا ما عند أبي داود‏:‏ «من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ والإِيتار بإِطلاقه يشمل الثلاث فما فوقه‏.‏

أما استدلال صاحب «الهداية» منه على نفي سُنِّية العدد بأن الإِيتارَ يحصُل من الواحد أيضاً فغير ناهِضٍ، لأنَّا لو حملنا الإِيتارَ على الواحد أيضاً‏.‏ لَزِمَ نفي الاستنجاء رأساً، لأنه إذا كان الواحدُ أيضاً تحت الاختيار فقد آل الخيار إلى نفس الاستجمار، مع أنه واجب اتفاقاً وهو كما ترى‏.‏ علم أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّم الاكتفاء بالواحد، فحملَهُ على الواحد مَشْيٌ على مجرد اللفظ‏.‏ وكذا حُمْلُ البيهقي على ما فوق الثلاث إبطالٌ لغرض الشارع وإخلاءُ الشيء من نوعه‏.‏

والذي تحصَّل لي من روايات هذا الباب، هو أنَّ مقصودَ الشارعَ هو الإِقلاعُ وإِزالةُ النجاسات، والثلاثُ يجزىءُ عنه في الأغلب، فجاء ذِكرهُ لهذا‏.‏ والوِتريةُ مطلوبةٌ في الأحوال كلِّها، فَرُوعِيَت في هذا الباب أيضاً‏.‏ ولما كان الثلاث فيه الاجتزاء والوِترية معاً كَثُرَ ذكره في الأحاديث، فَذِكرُ الثلاث لكونه قالعاً ومُجْزِئاً لا لكونه واجباً‏.‏ ويشهدُ له ما أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ فليذهب معه بثلاثة أحجار، فإنَّها تُجزىءُ عنه‏.‏ فأشار إلى أنَّ المطلوبَ هو الإِنقاء والاقلاع، والتثليثُ بعينه للإجزاء‏.‏

وأما أن الوِتريةَ مطلوبةٌ فلما ورد‏:‏ «ءن الله وِترٌ يحبُّ الوترَ» وحينئذٍ حُمِلَ قوله‏:‏ «فليوتر» على ما فوق الثلاث ابتداءً، كما حَمَله البيهقيُّ إعدامٌ لغرضِ الشارع، فإنَّه لم يَرِد به الثلاثُ فما فوقه لكونه عدداً مخصوصاً، بل أراد الوترية وجعلها مقصودَة‏.‏ نعم، الثلاث محبوبٌ لكونه أقرب إلى الطهارة ولتحقُّقِ الوِترية فيه‏.‏

ثم العجب منهم حيثُ وردَ ذلك العددُ بعينه في كثير من الأحكام فلم يَرَوه واجباً ففي الحديث‏:‏ «أما الطِّيبُ فاغسُلْه عنك ثلاث مرات» قال النووي‏:‏ إنما أمر به مبالغة في الإِزالة فإِن حصلت بمرة كفَتْه‏.‏ في غير واحد من الموضع، وهو المُتَمَسَّك للحنفية في عدد الثلاث للتطهير في النجاسات الغير المرئية، وأما في المرئية فيكتفي عندهم إزالتها ولا عدد فيها‏.‏

وبعبارة أخرى إنَّ الشريعة إذا وردت بالإِيتار أعلنت معه بالاختيار، وقالت‏:‏ من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج‏.‏ وإذا وردت بالتثليث ذكرت معه الإِجزاءُ والاكتفاء، وهو قوله‏:‏ فإِنَّها تجزىء عنه، فخرجَ أنَّ التثليثَ أيضاً مستحبٌ كاستحباب الإِيتار، وإِنْ كان التثليثُ للإِجزاء والإِيتارُ لتحصيل الوِترية، وصار إجزاء التثليثِ واستحبابُ الإِيتار مشروحين بالحديث بدون كُلفة، وخرج الوجوبُ من البين‏.‏

156- قوله‏:‏ ‏(‏هذا رِكْس‏)‏ وقد وقع عند ابن ماجه بدله‏:‏ «رجس» وفي النهاية‏:‏ الركس شبيه المعنى بالرجيع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏اركسوا فيها‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 91‏)‏ أي ردوا‏.‏ وقال ابن سيد الناس‏:‏ رِكس كقوله‏:‏ رجع، يعني نجساً، لأنَّها أركست أي رُدَّت في النجاسة بعد أن كانت طعاماً‏.‏ وقال الخطَّابي‏:‏ الرِّكس‏:‏ الرجيع من رَجَعَ من حالة الطهارة إلى حالة النَّجاسة‏.‏ وفي رواية «رَكيس» فعيل بمعنى مفعول، فإِذن هو وصفٌ لا حكمٌ وترجمته‏:‏ صلى الله عليه وسلّم راهوا ومآلُه إلى النجاسة‏.‏ وعلى هذا يدور الحُكْم على هذا الوصف، فكلُّ ما يكون ركساً يكون نجساً‏.‏

وحينئذٍ يكونُ حجةً لنا على نجاسة الأزبال مطلقاً، سواء كانت لمأكول اللحم أو غيره، لأَنَّا علمنا العلَّة من جهة الشرع، وهي تصدُق على الأزبال فإنَّها ركسٌ، فتكون نجساً لا محالة بخلاف الرجس فإِنَّه لا يفيدنا وإِنَّ كان صادقاً في نفسه، وذلك لكوزنه حكماً على تلك الرؤية فيقتصر على مورده، ولم تعط فيها ضابطة من صاحب الشرع، لنستعمله في المواضع الأخر، بخلاف الركس فإِنَّه وصفٌ حِسِيٌّ، فيدور عليه الحُكْم حيثما دار‏.‏

ولعلَّ الرجس رواية بالمعنى، لأنَّ مآل الركس هو الرجس كما عَلِمْت‏.‏ ثم إِنْ قلنا‏:‏ إن الرجس أيضاً وصف بمعنى بليدى فهو وصفٌ غير منضبطٍ لأنه محوِّل إلى الطبائع ويحتاج إلى الاستقراء، فلم تتحصل منه ضابطة‏.‏ نعم، لو كان الرجس منضبطاً لصلُح أن يُعلل به أيضاً‏.‏ وفي رواية ابن خزيمة أنها كانت رَوْثة حمار‏.‏ ونقله الشوكاني في «النيل» وسهى فيه حيث جعله مرفوعاً فلا يبقى حجة لنا، لأنَّ معناه حينئذ أن كونه ركساً ورجساً لأجل كونه روثة حمار، وهو حيوانٌ غير مأكول اللحم، فلا يلزمُ منه نجاسةُ زِبْل مأكول اللحم، وهو في الحقيقة من جهة الراوي كما في «الفتح» فإِنه يذكرُ في بيان القِصة أنَّ الروثة التي جاء بها كانت روثةُ حمار، فهذا بيانُ واقعةٍ منه لا تعليل مِنَ النبي صلى الله عليه وسلّم فاحفظه‏.‏ وقد تكلم ابن تيمية رحمه الله تعالى على المسألة في نحو خمسٍ وثلاثين ورقة واختار طهارة أزبالِ مأكول اللحم، وقد أَجبتُ عن كلامه في ورقة‏.‏

باب‏:‏ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّة

باب‏:‏ الوُضُوءِ مَرَّتَينِ مَرَّتَين

وقد ثَبَت عنه صلى الله عليه وسلّم الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، إلا أنَّ السنة الكاملة ثلاثاً ثلاثاً‏.‏ ثم لو تركه أحد يأثم أم لا‏؟‏ فهذه مسألة لا أتعرض إليها فإنَّه أمرٌ عظيم؛ نعم، أقول‏:‏ إنَّ الترك بقدر ما تركه النبي صلى الله عليه وسلّم جائز، فإِن ترك التثليثَ واعتاد عليه، مُنِعَ‏.‏

باب‏:‏ الوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثا

ولعلَّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في بعض صفات وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فاحتاجا إلى إرَاءَةِ صِفةِ وضوئه صلى الله عليه وسلّم وظاهر حديثهما الفصل كما هو مذهب الحنفية‏.‏

159- قوله‏:‏ ‏(‏ثم أَدْخَل يمينه في الإِناء‏)‏ لما يأتي من قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا استيقظ أحدكم» وما يتعلق به‏.‏ وإنما غمس يده في الإِناء لأن إناءهم لم يكن له أُذْن يومئذ، والأُذْن ترجمته توتى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم صلَّى ركعتين‏)‏ أي تحية الوضوء‏.‏

قوله‏:‏ «لا يُحَدِّث فيهما نفسه» ومرَّ عليه الطحاوي في «مشكِل الآثار» وقال‏:‏ إنَّ الأفصح نفسَه بالنصب‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إنَّ المرادَ بتحديثِ النفس هو ما كان له فيه دخل واختيار، فالخواطرُ غير المكتسبة تبقى خارجةً وصاحبها يكون مشمولاً في قضية الحديث‏.‏ «قلت»‏:‏ لا حاجة إليه، وليكن النفيُ عاماً كما في الحديث وإِنْ كان أمراً عسيراً، لكنَّه إذا كان في النوافل فلا بأس، فإِنَّه يُشَدَّد في النوافل ما لا يُشدَّد في غيرها، لكونها معاملة المرء ونفسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غُفِرَ له‏)‏ وأطلقه المتقدمون وفصل فيه المتأخرون‏.‏

160- قوله‏:‏ ‏(‏ما بَيْنَهُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وعند مسلم‏:‏ «إلى صلاة أخرى»‏.‏ وعند المصنِّف رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق عن عثمان رضي الله عنه في آخره قوله‏:‏ ‏(‏فلا تَغْتَروا‏)‏ وهو يرجع إلى معنى قوله‏:‏ «لئلا يتكلوا» فبيَّن أن الوعد بهذا الإطلاق موضع الاغترار، فلا ينبغي الغفلة عن الأعمال، فإِنَّ المغفرةَ إنما تحلُّ بالمجموع، والمجموعُ مكفِّرٌ للمجموع، وهو غير معلوم في الدنيا، فلا ينكشف الأمرُ إلا في المحشر، فلا تغتروا بهذا الوعدِ ولا تظنُّوا أَنَّ هذا القدرَ من العمل يكفي للنجاة، فعُلم منه أنه شيء اغترار لا موضع قرار، فإِذن هذا الحديث أيضاً في فواضل الأعمال لا في فرائضها‏.‏ ومعنى الاغترار أن يغترَّ بهذا الوعد ولا يرغبُ في فضائل الأعمال‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِنثارِ فِي الوُضُوء

قالوا‏:‏ وهو من النَّثْرَة والاستفعال بمعنى تحريك النثرة، والظاهر عندي أَنْ يكون من النَثَّر‏.‏

161- قوله‏:‏ ‏(‏من استجمر‏)‏ والجمهور على أَنَّ معناهُ استعمالُ الحِجَارة، وما نُقِل عن مالك أنَّه تجمير الكفن، فإِنه لا يليقُ بشأنه ومثلُ هذه النقول البعيدة توجد في مطاوي الأسفار وبطون الأوراق، فلا يُعتمد عليها‏.‏

باب‏:‏ الاسْتِجْمَارِ وِتْرا

فلو أَنْقَىَ بالرابعة يَستعمِلُ الخامسة استحباباً تحصيلاً للإِيتار‏.‏

162- قوله‏:‏ ‏(‏إذا استيقظ أحدكم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ويدخل فيه عِدَّة مسائل، مِنْ أنَّ الحديثَ من متعلقات الوضوء أو المياة، فإِنَّ كان من مسائل الوضوء يخرج منه سُنية غَسْل اليدين قبل الوضوء، ولا أحفظ فيه حديثاً قولياً‏.‏

وأَنَّ النجاسة الموهومة هل لها أحكامُ التطهير‏؟‏

وأَنَّ أمر الغَسْل هل يختصُ بنوم من الليل أو النهار أو يعمهما‏؟‏

وأن سببَ الغسل ما هو‏؟‏

وأن التثليثَ ضروريٌ أم لا‏؟‏

وأنه إن غمس يده فيه فهل يفسد الماء أم لا‏؟‏

فاعلم أن ابن رُشدٍ تكلم عليه أنَّه من أي البابين، أعني من باب الوضوء أو المياه، فإِن كان من مسائل المياه كان محطُّه صيانةَ الماء لا غير، وهو أولى عندي، بقي الغَسْل قبل الوضوء فيكون من باب الأولى، لأن صيانةَ الماءِ إذا كان مطلوباً في كل حالٍ كان للوضوء بالأولى، فالحديث وإن كان من باب المياه إلا أنه ينجرُّ حكمه إلى باب الوضوء أيضاً‏.‏ ولا تناقض بين النظرين‏.‏

والحديثُ ناظرٌ إلى النجاسات الموهومةِ وأنَّ لها أحكام التطهير، ولذا أَمَرَهُ أن يغسل يده قبل إدخالها في الإِناء‏.‏ ثم إنه لو غَمَسَهَا فيه بدون الغَسْل لا يفسدُ الماء، بشرط أن لم يكن على يده أثر نجاسة‏.‏ نعم، كُرِه تنزيهاً، وهي الضابطة عندنا في النجاسات الموهومةِ كسؤور الدجاجة المُخَلاة إلا ما في «المنية»‏.‏ وأمرُ التثليث عندنا في النجاسات الغير المرئية خاصةً لحصولِ غلبةِ الظن بعده بالتطهيرِ‏.‏ وهذا الحديث وأمثاله هو المتمسك في هذا الباب، وعند الترمذي‏:‏ «فلا يْدُخِلْ يده في الإِناء حتى يُفرِغَ عليها مرتين أو ثلاثاً»‏.‏ وإنما وسَّع في الحكم ولم يؤكد لكون السبب أي وجودِ النجاسة محتمَلاً أيضاً، فحَكَم بقدر سببه‏.‏

والحديث حجةً لنا في مسائل المياه وها أنا أذكر مسألةَ المياه بقدْر الضرورة، وقد ذكرته تفصيلاً في درس «جامع الترمذي»، فاعلم‏:‏ أن الماء يتنجسُ بالتغيُّرِ إجماعاً، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى بدون فصل بين القليل والكثير، وعنه روايات أخرى‏.‏ وعند الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ إذا بلغ الماءُ قلتين لم يحمل الخبث وإلا تنجَّس، وهو الفاصل عنده بين القليل والكثير‏.‏ وعندنا الأمر مفوض إلى رأي المُبْتَلى به، فإِن رأى أنَّ النجاسةَ وقعت في جانبٍ وخَلَصَ أثرها إلى جانب آخر فهو قليل، وإلا فهو كثير في حكم الجاري‏.‏ وبعبارة أخرى‏:‏ أنَّ الماء إذا كان جارياً أو في حكم الجاري فهو كثير وما وراءه فقليل‏.‏ واختلفت الروايات عن أحمد رحمه الله تعالى‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الموقَّت والمحددَ في الباب ليس إلا الشافعية، فإنَّ المحدِدَ من لا يحكم بمقدار العِلَّة وهم الشافعية، فإنَّهم قالوا‏:‏ إنَّ الماء إذا كان ما دون القلتين ولو بدرهم تنجَّس بقليل والنجاسة وكثيرها، وإن كان قُلتين لا يتنجَّسُ ولو بِرَطل منها، وهذا هو غايةُ التحديد حتى أنهم قالوا‏:‏ إنَّ النجاسة إذا أُخرجت من قلتي الماء ولم يبق أَثرُها فالمطروحُ نجسٌ والباقي طاهر‏.‏ وأعجب منه ما رأيت في كلمات بعضهم‏:‏ أنَّ ما دون القلتين يتنجس وإن كان الماء جارياً والباقي طاهراً، فهم الذين لا يحكمون بقدر العِلَّة، لأن حكمَ التَّنجيْس إن كان لحالِ النجاسة فالواجبُ أن يدارَ الحكمُ عليها، ويكون الحكم في القلتين وما دونهما سواء‏.‏ ولكن المدار عندهم هو القلتان‏.‏

وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فليس بمحدد أصلاً، كما قرره الطحاوي، ومسألة العشر في العشر ليست مرويةً عن الإِمام، وأَمرُها معلومٌ ولا نذكره، ثم لا فرق بيننا وبين المالكية إلا أنهم اعتبروا التغيُّرَ باعتابر الحِسِّ، واعتبرناه بحَسَبِ ظن المبتلى به‏.‏ وأنت إن تأملت ظهر لك إن شاء الله تعالى أن أقربَ الأنظار إلى الشريعة هو الإِحالةُ إلى ظن المبتلى به، ولا أراك شاكاً في أن ما اعتبرته الشريعة في أكثر الأبواب هو الظنُّ دون الحس، فإِن كان الأمرُ في الأبوابِ الأُخر هو هذا، فليكن في هذا الباب أيضاً كذلك‏.‏

ثم ما من مذهب فيه إلا ويلزمُ عليه أَنْ يتركَ حديثاً من أحاديثِ الباب أن يؤوِّل فيه‏.‏ فالمالكية يستدلون بحديث بئر بُضَاعة وأمثاله، ويتركون حديثَ القُلتين وحديثَ النَّهي عن البول في الماء الراكد وأمثالهما‏.‏ وهكذا الشافعية يختارون حديث القلتين ويؤوِّلون في الباقي‏.‏ والحاصل‏:‏ أن كلاً منهم يأخذُ بحديثٍ في الباب ويجعلُه قاضياً على جميع الأحاديث، ويحصرُ فيه مسألة المياه، فيشكِلُ عليه جمعُ الأحاديث على مورد واحد فتارة يلجأ إلى تأويل هذا، وأخرى إلى إعلال هذا، فصار كما قيل‏:‏

إِذا سد منه منخر جاش منخر

وأمَّا إمامنا الأعظم فإِنَّه لدِقَّة نظره لم يترك في الباب حديثاً إلا وقد عَمِلَ به ووضعه على الرأسِ والعينِ بدون ريب، وقال‏:‏ إنَّ الله تعالى خَلَقَ المياه على أقسام‏:‏ فمنها ماء الأنهار، ومنها ماء الآبار، ومنها ماء الفَلَوات والقِفار، ومنها ما تُحْرَز في البيوت والديار، والشريعة الغراء قد أعطت لكلٍ منها حكماً حكماً‏.‏

فحديث بئر بُضَاعة إنَّما ورد في مياه الآبار بعد إخراج النجاسة عنها لا حَالَ كونها فيها‏.‏

وحديث القُلتين في مياه العيونِ التي في الفلوات، ويكون لها نبع من تحتها وأَخْرَجَهٌ من فوقها، ويَبْقَى في الصحارى على طريق الدوام يَستقي منه النَّاس، يَردُون عليها ويَصْدرون عنها، ولا يكون فيها تيقنُ النجاسة، غير أَنَّها لمَّا لم تكن مصونةً محفوظةً، تسبقُ الأوهامُ إلى نجاستها، ويتزَّهُ العامَّة عن استعمالها‏.‏

وحديث ولوغِ الكلب وأمثاله في المياه المقطوعة المحرزة في الأواني‏.‏ ولذا أخذها الحديث في العُنوان وقال‏:‏ «طهورَ إناءِ إحدكم إذا ولغ فيه الكلب»‏.‏‏.‏‏.‏ فلا يغمس يده في الإِناء‏.‏ كما أنه أخذ عُنوان الفلوات في حديث القُلتين‏.‏ فدلت الأحاديث من حاقِّها على أنَّها جاءت موزعةً على مياه‏.‏ ثم إنَّه لمَّا لم يتفق في البيوت إلا أن يَلَغَ الكلبُ، أو تشربَ منه الهرةُ، أو تقعَ فيه الفأرة، أو يغمسَ أحد فيه يده، فقد أخذ كله في العُنوان ثم بيَّن له حكماً‏.‏

وحديثُ ماء الفلوات لا يكون فيها إلا ورود السِّباع، فذكر له حكماً أيضاً، فلمَّا علمنا أنها قد أقامت أبواباً عديدة في مسألة المياه، وقصدت أن تعُطي لكل منها حكماً حكماً فليأتها من أبوابها ولا يختلط بينها فمياه الآبار حكمُها أنها تتنجَّسُ بوقوع النجاسات، ثم يبقى سبيلٌ بنزحها كلها أو بعضها بعد إخراج النَّجاسة عنها فلا يكونُ نجساً بحيث لا يَطْهر أبداً، كما أنَّ المؤمن لا ينجس وأن الأرض لا تنجس‏.‏ وهو معنى قوله‏:‏ «إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء»‏.‏ أي بحيث لا يطهر أبداً أو بحيث كما زعمتم‏.‏

ومياه العيونِ حكمها أنَّها لا تتنجس من النجاسات الموهومة غير المقطوعة أصلاً، وذكر القُلتين لأنه إذا بلغَ هذا المقدارُ لا يظهرُ فيه أثر النجاسة غالباً ولم يرد به التحديد، ولهذا صح فيه لفظ‏:‏ أو ثلاثاً فهو للتنويع والتقريب، وإن حمله الشافعية على الشك‏.‏ على أنَّ حديث القُلتين لو حملناه على ما حملوه لكان غريباً في الباب، فإِن مسألةَ المياه مع كثرة الأحاديث لا يوجدُ فيها ذكرٌ للقلتين، ولا نعلمه إلا من تلقاء ابن عمر‏.‏ ثم لم يرو عنه غيرَ هذا‏.‏ فَندْرَته عندهم وعدمُ البحث عنه صريح في أنه ليس بمدارٍ بل نحو تعبير فاعلمه‏.‏6

والمياه المحرزةُ حكمها أنَّها تتنجس ولا يبقى إلى تطهيرها سبيلٌ غيرُ طرحها، يل يتنجس معها أوانيها أيضاً‏.‏ ولذا قال‏:‏ «طهور إناء أحدكم‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ فهذه أقسامُ المياه وتلك أحكامُها فَرَاعِها وأنزلها في مَنَازِلها، ولا تُدْخِلْ جملتَها تحت حديثٍ واحد‏.‏

تنبيه

وهناك سهوٌ ينبغي أَنْ يَتَنبَّه عليه النَّاظر، وهو أن الحنفية عند تقرير الاضطراب في حديث القُلتين قالوا‏:‏ إنه رُوي عن ابن عمر أربعين قُلة‏.‏ هكذا وجدناه في «فتح القدير» أيضاً، وكنت أظنَّ أن الصحيحَ ابن عمرو وسقط الواو من الناسخ وحينئذ يَخِفُّ الاضطراب، حتى إذا طُبع كتاب البيهقي وجدناه فيه عن ابن عمرو بن العاص، ففرحتُ منه فرحَ الصائم عند الإِفطار‏.‏ فهذا سهوٌ قد تسلسل في الكتب فلا تَغْفُلْ عنه، والأمر كما قلنا‏.‏

أما حديث المستيقظُ فحجةٌ لنا في الباب واستدل به صاحب «الهداية» أيضاً بأنه إذا أُمرنا بغسل اليد عند احتمال النجاسة، علمنا أنها لو كانت على يده حقيقة نؤمرُ بغسلها بالأولى‏.‏ ومعلوم أنَّه لو غمسها وعلى يده نجاسة لَمَا تغير منها الماء لقُلتها، ومع ذلك حكمت الشريعةُ بغسلها، وليس ذلك إلا لتنجس الماء بهذا الغمس عندها، فأمره أَنْ يغسلها قبل أن يُدخِلَها في الإِناء لئلا ينجسَ الماء كما يشير إليه التعليل بقوله‏:‏ «فإنه لا يدري أين باتت يده» أي على موضع النَّجاسة أو غيره‏.‏

فلا بد أن يكونَ لإِلقاء اليدِ المحتملة النجاسة تأثيرٌ في الماء عندها وهو النجاسة، ولذا مَنَعَه عن إلقائِها، وهو الذي فَهِمَه أحمد وإسحاق والشافعي رحمهم الله تعالى، كما يدل عليه عبارة الترمذي والحافظ ابن تيمية، لمَّا اختار فيه مذهب مالك رحمه الله تعالى جَعَلَه من باب النظافة، يعني أن إلقاءَها فيه حال كونِها محتملةَ النُّجاسة بعيدةٌ عن النظافة وإن لم ينجس الماء فهو كالنهي عن البصاق في الماء والتنفس فيه، مع أنهما لا يُنَجسان الماء عند أحد‏.‏

وقال في تقريره‏:‏ إن للشيطان ملامسةٌ وملابسةٌ بالإِنسان، فإِنَّه يبيت على خَيَاشيم بني آدم ولذا أمره الشارعُ بغسل الخياشيم عند الانتباه، وهكذا له ملابسةٌ بيده أيضاً لكونها جارحة، فوردت الشريعةُ بغسلِها قبل غمسها لأجلِ هذا النظر المعنوي لا غير، فإن هو من باب النَّظافة دون النجاسة‏.‏

حتى أنَّ الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى أيضاً تأثر منه وقال‏:‏ ليس فيه تصريح يتنجس الماء بتقديرِ كونِ اليد نجسة، بل ذلك تعليلٌ منها للنَّهي المذكور وهو غيرُ لازم، أعني تعليلَه بتنجس الماء عيناً بتقدير نجاستها، لجواز كونه لأعم من النجاسة والكراهة‏.‏ فنقول‏:‏ نهى لتنجُّس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير، أو الكراهة بتقدير كونها بما لا يغير‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّه يُمكن أن يكون الماءُ على تقدير غَمْسها مكروهاً لا نجساً، وإنما يكون نجساً إذا تغير، ولا دليلَ فيه على أنه يكونُ نجساً عند عدم التغير أيضاً، فإن النهي يكون عن المكروه كما أنه يكون عن النجس‏.‏

قلت‏:‏ أمَّا ما ذكره الحافظ ابن تيمية فقد ذكرنا أنَّه لم يذهب إليه أحد من الأئمة، وكلهم حَمَلوه على باب النجاسة دون النظافة، ثم إنَّ ملابسَتَه إنما هي بمواضع الألواث، فإنه يلعب بمَقَاعِدِ بني آدم ويبيت على الخياشيم لكونها مواضع اللوث أيضاً، أو ملابسته ليُلقي منها الوساوس إلى القلب والدِّماغ، واليد بمعزلٍ منهما، فماله ولليد‏؟‏ مع أنَّ الذكر في الحديث لتَطْوَاف اليد وجولانها، فهو الدخيلُ في النجاسة لا ملابسة الشيطان، ولو كانت لتعرَّض إليها أيضاً كما تعرض إلى بيتُوتته على الخياشيم، على أن في الدارقطني‏:‏ «أين باتت يده منه» وصححه ابن مَنْده الأصبهاني‏.‏

فهذا صريحٌ في أنَّ المدخل لبيتُوتة اليد على حصة من جسده، لا لبيتوتة الشيطان على يده فجعلَ الحديثُ اليدَ طائفاً وبائتاً، وجعل ابن تيمية رحمه الله تعالى الشيطان بائتاً‏.‏ وذكرَ الحديث بيتوتَة اليد من جسدِهِ وذكر هو ملابسةَ الشيطان بيده، فأني هذا من ذاك‏؟‏‏.‏

وأما ما ذكره ابن الهُمَام فلست أُحَصِّلهُ أيضاً، لأنه لا معنى للكراهة إلا أنها لأجلِ النجاسةِ المحتملة، فالكراهةُ أيضاً من فروع النجاسات لا أنَّها باب آخر‏.‏ وتفصيله‏:‏ أن الماء عندنا إما طاهر أو نجس إن وقعت فيه نجاسة، وليس فيه قسم ثالث‏.‏ أما كونه مكروهاً فليس إلا لأجل احتمال وقوع النجاسة، كما قالوا في سؤر الدجاجة المُخَلاة وليس حاله كالصلاة، فإِنها إما صحيحةٌ أو فاسدةٌ أو مكروهةٌ، فالكراهة فيها قِسم مستقلٌ وليست لأجل مِظنَّة سبب الفساد، فللكراهة أسبابٌ كما أنَّها للفساد، أعني أنَّ الصلاةَ تفسدُ بأسبابها وكذلك تكون مكروهةً بأسبابها‏.‏

وليس مرجعُ الكراهة فيها إلى أسباب الفساد، فلا نقول فيها‏:‏ إن أسباب الفساد إن تحققت فيها بطلت وإلا صارت مكروهة، بخلاف الماء فإِنَّ الحكم بالكراهة فيه ليس من أجل تحقق سبب مستقل لها، بل مرجعُها إلى سبب النجاسة، فإِن تحققت النجاسة فيه يُحكم بنجاسته، وإن تُرُدِّدَ في وقوعها يُحكم بالكراهة، فلم يكن للكراهة سببٌ مستقلٌ‏.‏ وإذن لا معنى لكراهته إلا كونُه محتملَ النجاسة، فما نظر به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى لم أفهمه نعم، لو كانت كراهةُ الماء لسببٍ مستقل ولم يكن مرجِعُها إلى النجاسة لكان لإِيراده وجه، فإِن الكراهةَ حينئذ كانت لأمر مستقلٍ لا تأثيرَ فيها للنجاسة، كما أن الصلاةَ تكون مكروهةً بأسبابها لا من جهة احتمال أسباب الفساد‏.‏

ويلوح من كلام ابن رُشد أَنَّ الكراهةَ عند المالكية قِسم ثالث، كما أن الكراهةَ في الصلاة كذلك عندنا، ولا تكون ناشئةً من جهة احتمال النجاسة‏.‏ قلت‏:‏ وهو كذلك عندهم‏.‏ أمَّا كونها قِسماً مستقلاً عند الحنفية فلم يثبت عندي، وحينئذ ظَهَرَ الجوابُ عن نظر الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى على أظهر وجه، وبقي الحديث في مسائل المياه حجةً لنا، ولله الحمد على مألهم، والله تعالى أعلم‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الشريعةَ أقامت أبوابَ النجاسة كما أنَّها أقامت أبواب النظافة، فإِرجاع أبواب النجاسات إلى أبواب التزكية والتحلي والتخليط بينها بإِقامة جرِّ ثقيلٍ مما لا ينبغي، فالبُصاق في الماء والتنفس فيه من باب النظافة قطعاً، ولذا لم يذهب فيه أحد إلى الفساد، لأنه لم توجد هناك نجاسة ولا احتمالها، بخلاف ما نحن فيه، فإِنَّه لو كان الغَسْل لأجل النظافة فقط، لكان النائم وغيره فيه سواء، كما ذكره صاحب «العناية» في قيد الدائم في قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَبُولنَّ أحدكم في الماء الدائم وسيجيء»‏:‏ ولا دَخْل لنومِهِ، إلا أن يدَه احتملت التنجس لتَطْوَافها على مواضع الأنجاس وهو لا يدريه، فكان لا بد أن تنهاه الشريعةُ عن غَمْسِها، فهذا حجةٌ على المالكية قطعاً‏.‏ وللأعذار الباردة مجالٌ وسيع‏.‏

باب‏:‏ غَسْلِ الرِّجْلَين

وترجمة المصنَّف رحمه الله تعالى هذه ناظرةٌ إلى تفسير الآية‏.‏ ومن العجائب أنَّ ما يجعلونَه لعنهم الله تعالى حجةً لمسح الأرجل هو بعينه حجة للغسل عند السلف، حتى إن بعضهم توهَّم منه نسخَ المسح، ولذا كان يُعجبهم إسلام جرير، لأنَّه أسلم بعد المائدة وكان يمسحُ على الخفين، فَعُلِكَ أنَّ حكم المسح باقٍ بعد نزول المائدة أيضاً‏.‏ وفيها آية المسح بالرأس والأرجل‏.‏ ثم لا يخفى عليك أن المسحَ بالرجلين قد ثبت عند الطحاوي بإِسناد قوي، ولكنه في الوضوء فعنده عن النَّزَّال بن سَبْرة بإِسناد قوي قال‏:‏ رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر ثم قعد للناس في الرُّحبة، ثم أتي بماء فمسح بوجهِهِ ويديه، ومسح برأسه ورجليه، وشرب فَضْلَه قائماً ثم قال‏:‏ إنَّ ناساً يزعمون أن هذا يُكره، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث‏.‏

وليعلم أنَّ الوضوء في الشرع على أقسام‏:‏ فمنها ما عَلِمت، ومنها للنوم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومنها من عند الترمذي‏.‏ والرواة أيضاً يراعونها، ولذا تراهم يقولون‏:‏ توضَّأ وضوءَه للصَّلاة، فَعُلِم منه أن في أذهانهم أقساماً للوضوء يريدون به الاحتراز عنها، فلا عبرة لإِنكار ابن تيمية، وعند الترمذي في باب ما جاء في التسمية على الطعام فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يديه ومسح ببَلِلِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه، وقال‏:‏ «يا عِكْرَاش، هذا الوضوء مما غيرت النار»‏.‏ وفي إسناده لين‏.‏

باب‏:‏ المَضْمَضَةِ فِي الوُضُوء

وأخرجه ابن السَّكَن في «صحيحه» وفيه تصريحٌ بالفصل‏.‏

باب‏:‏ غَسْلِ الأَعْقَاب

وإنما خصَّصها بالذكر لأنه لا يصلُ إليها الماء إلا بالاعتناء‏.‏ ومرَّ عليه الطحاوي وجعله ناسخاً للمسح على الأرجل، ويُفهم من كتابه مشروعيةُ المسح في زمان ثم نَسْخه، لأنَّه أخرج عن عبد الله ابن عمرو وفيه‏:‏ ونحن نتوضأ ونمسحُ على أرجلنا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فَدَلَّ على أنهم كانوا يمسحون على الأجل حيناً ما؛ فلمَّا نادى بلالٌ بقوله‏:‏ «ويلٌ للأعقاب من النار» نَسَخَ المسحَ وصار فرضُ الرجلين عو الغَسْل‏.‏

قلت‏:‏ وهو كما ترى، لأن التعبيرَ بالمسح إنما هو لخِفَّة غسلهم وعدم اعتنائهم به، كما يُعلم من ألفاظه، ففي لفظ‏:‏ فانتهينا إليهم قد توضؤوا وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء‏.‏ وفي لفظ‏:‏ رأى قوماً توضؤوا وكأنَّهم تركوا من أرجلهم شيئاً‏.‏ فهذا كلُّه يدل على أن ما يقصدُونه كان هو الغَسْل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فكأنهم كانوا يمسحون لا أنهم كانوا يمسحون لأجلِ أن فرضَ الرجل كان عندهم هو المسح ليثبت النَّسخُ‏.‏

باب‏:‏ غَسْلِ الرِّجْلَينِ فِي النَّعْلَينِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَين

واعلم أنَّ المسحَ على الجَوْربين لم يثبت عندي مرفوعاً وإن كان جائزاً بشرائطه فقهاً، لأنَّ الترمذيَّ وإن صحح حديث المُغيرة في الجَوْربين، لكنَّه معلولٌ عندي قطعاً، لأن حديث المُغيرة واقعةٌ واحدة قد رُوي بنحو من سبعين طريقاً، وليس فيهما إلا أنَّه مسح على الخفين، فمن ذكر الجوربين فقد وَهِمَ قطعاً‏.‏ ولذا كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدثُ بهذا الحديث كما نقله أبو داود وأسقطه مسلم أيضاً‏.‏ وأما الترمذي فقد نظر إلى صورة إسناده فقط‏.‏ وكذا ذَكَرَ النَّعلين فيه سهو أيضاً، وهو عند الطحاوي عن أبي موسى‏:‏ أنه مسح على جوربيه ونعليه‏.‏ وحمله الطحاوي على ما إذا كان النعلان على الجوربين‏.‏ قلت‏:‏ وحديثه ليس بمتصل ولا بقوي، وهو تأويلُ عامتهم في حديث المُغيرة، وقد قلت‏:‏ إِنه معلوم قطعاً‏.‏

166- قوله‏:‏ ‏(‏فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمس‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، ومسُّ الركن اليماني جائزٌ عندنا أيضاً‏.‏

166- قوله‏:‏ ‏(‏ويتوضأ فيها‏)‏ وعند أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فأخذ حَفْنَة من ماءٍ فَضَرَب بها على رجلِهِ وفيها النَّعْل فَفَتَلَ بها ثم الأخرى مثل ذلك، وقد مرَّ في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخذ غَرفة من ماء فرشَّ، ولعله أيضاً عند التنعل، والحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى جعله صورةً مستقلة وقال‏:‏ إن الرشَّ كافٍ في النعلين كالمسح في الخفين‏.‏ قلت‏:‏ وهو احتمالٌ لم يذهبْ إليه ذاهبٌ‏.‏

166- قوله‏:‏ ‏(‏وأما الصُفرة‏)‏ واعلم أن ابن عمر رضي الله عنه كان يستعمل الصُّفرة‏.‏ ثم كان برفعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم مع أنه قد ثبت فيه الوعيدُ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قلت‏:‏ وردت فيه ألفاظٌ عديدةٌ مع صَبغ الأشعار والثياب ثم الصَّبْغ بالزعفران وغيره لا يُدرى أن أي هذه الأجزاء رفعه‏.‏ ولعله تطرَّق فيه اجتهاده‏.‏ نعم، يجوزُ التصفير علاجاً، ولم يتبين لي بعد في هذا الباب شيء صافٍ كافٍ‏.‏ ولعل الله يُحدثُ بعد ذلك أمراً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى بيعت‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ يعني به أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُهِلُ حين يركب راحِلَته، وإنِّي لا أركب حتى يُظِلُّ يوم التروية، فلأجل هذا لا أُهلُّ إلا في هذا اليوم، ولا أهل عند رؤية الهلال كأهل مكة‏.‏ وهذا أيضاً اجتهادٌ منه رضي الله تعالى عنه‏.‏ قلت‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلّم كان يُهل إذا شرع في أفعال الحج، وإنما كان يُهِلُّ عند الانبعاث، لأنه كان يَقْدُم من المدينة وكان انبعاثه عند سفره، بخلاف ابن عمر رضي الله عنه، فإنه كان مقيماً بمكة من قبل، فلا عليه أن يُهلَّ ثم يركبَ يوم التروية‏.‏ ولعله لم يرغب في تقديم الإهلال اجتهاداً منه، وإلا فالفارق موجودٌ والأولى هو القديم‏.‏

باب‏:‏ التيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ وَالغَسْل

وفي «شرح الوقاية»‏:‏ أنَّ التيامن كان من عادته صلى الله عليه وسلّم ثم إذا داوم عليه جاء الاستحباب‏.‏ ثم التيامن ليس في أحدٍ من أقوام الدنيا غير الإِسْلام، حتى أن كتابتهم أيضاً من جانب الأيسر‏.‏ وفي «المشكاة»‏:‏ «أن الله تعالى خَيَّر آدم فاختار اليمين وكلتا يدي الرحمن يمين» فهذا اختيار آدم جرى في ذريته، كالسَّلام ورد الملائكة عليه صار سُنَّة له ولذريته، وأجدُ أشياءَ استحبها المقربون فوقعت بمكانٍ من القَبُول، ثم سُنَّت في الشرائع‏.‏